الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وهاهنا أبحاث: الأول في سر تقديم الضمير على الفعلين وذكروا له وجوهًا الدلالة على الحصر والاختصاص كما يشعر به عدول البليغ عما هو الأصل من غير ضرورة ولذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما معناه لا نعبد غيرك وهو حقيقي لا يستدعي رد خطأ المخاطب والمقصود منه التبرئة عن الشرك وتعريض بالمشركين وتقديم ما هو مقدم في الوجود فإنه تعالى مقدم على العابد والعبادة ذاتًا فقم وضعًا ليوافق الوضع الطبع.وتنبيه العابد من أول الأمر على أن المعبود هو الله تعالى الحق فلا يتكاسل في التعظيم ولا يلتفت يمينًا وشمالًا والاهتمام فإن ذكره تعالى أهم للمؤمنين في كل حال لاسيما حال العبادة لأنهامحل وساوس الشيطان من الغفلة والكسل والبطالة والتصريح من أول وهلة بأن العبادة له سبحانه فهو أبلغ في التوحيد وأبعد عن احتمال الشرك فإنه لو أخر فقبل أن يذكر المفعول يحتمل أن تكون العبادة لغيره تعالى.والإشارة إلى حال العارف وأنه ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولًا وبالذات وإلى العبادة من حيث إنها وصلة إليه وراحلة تغد به عليه فيبقى مستغرقًا في مشاهدة أنوار جلاله مستقرًا في فردوس أنوار جماله وكم من فرق بين قوله تعالى للمحمديين: {فاذكرونى أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] وبين قوله للإسرائليين: {اذكروا نِعْمَتِى التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقره: 40] وبين ما حكى عن الحبيب من قوله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} [التوبه: 40] وبين ما حكاه عن الكليم من قوله: {إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].الثاني في سر قوله: {نَعْبُدُ} دون أعبد فقد قيل هو الإشارة إلى حال العبد كأنه يقول إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث أذكرها وحدها لأنها ممزوجة بالتقصير ولكن أخلطها بعبادة جميع العابدين وأذكر الكل بعبارة واحدة حتى لا يلزم تفريق الصفقة وقيل النكتة في العدول إلى الإفراد التحرز عن الوقوع في الكذب فإنا لم نزل خاضعين لأهل الدنيا متذللين لهم مستعينين في حوائجنا بمن لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا ولا حياتًا ولا موتًا ولا نشورًا ويا ليت الفحل يهضم نفسه فكيف يقول أحدنا إياك أعبد وإياك أستعين بالافراد ويمكن في الجمع أن يقصد تغليب الأصفياء المتقين من الأولياء والمقربين وقيل لو قال إياك أعبد لكان ذلك بمعنى أنا العابد ولما قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} كان المعنى أني واحد من عبيدك وفرق بين الأمرين كما يرشدك إليه قوله تعالى حكاية عن الذبيح عليه السلام: {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102] وقوله تعالى: حكاية عن موسى: {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا} [الكهف: 69] فصبر الذبيح لتواضعه بعدِّ نفسه واحدًا من جمع ولم يصبر الكليم لإفراده نفسه مع أن كلًا منهما عليهما السلام قال: {إِن شَاء الله} وقيل الضمير في الفعلين للقاري ومن معه من الحفظة وحاضري الجماعة وقيل هو من باب: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ» على ما ذكره الغزالي قدس سره وقد تقدم، الثالث في سر تقديم فعل العبادة على فعل الاستعانة وله وجوه الأول أن العبادة أمانة كما قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الامانة عَلَى السموات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان} [الأحزاب: 2 7] فاهتم للأداء فقدم، الثاني أنه لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحًا واعتدادًا منه بما صدر عنه فعقبه بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ليدل على أن العبادة مما لا تتم إلا بمعونة وتوفيق وإذن منه سبحانه، الثالث أن العبادة مما يتقرب بها العبد إلى الله تعالى والاستعانة ليست كذلك فالأول أهم، الرابع أنها وسيلة فتقدم على طلب الحاجة لأنه أدعى للإجابة.الخامس: أنها مطلوبة لله تعالى من العبادة، والاستعانة مطلوبهم منه سبحانه فتقديم العبد ما يريده مولاه منه أدل على صدق العبودية من تقديم ما يريده من مولاه، السادس: أن العبادة واجبة حتمًا لا مناص للعبادة عن الإتيان بها حتى جعلت كالعلة لخلق الإنس والجن فكانت أحق بالتقديم.السابع: أنها أشد مناسبة بذكر الجزاء والاستعانة أقوى التئامًا بطلب الهداية، الثامن: أن مبدأ الإسلام التخصيص بالعبادة والخلوص من الشرك والتخصيص بالاستعانة بعد الرسوخ، التاسع: أن في تأخير فعل الاستعانة توافق رءوس الآي، العاشر: أن أحدهما إذا كان مرتبطًا بالآخر لم يختلف التقديم والتأخير كما يقال قضيت حقي فأحسنت إلي وأحسنت إلي فقضيت حقي.الحادي عشر: أن مقام السالكين ينتهي عند قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وبعده يطلب التمكين وذلك أن الحمد مبادي حركة المريد فإن نفس السالك إذا تزكت ومرآة قلبه إذا انجلت فلاحت فيها أنوار العناية الموجبة للولاية تجردت النفس الزكية للطلب فرأت آثار نعم الله تعالى عليها سابغة وألطافه غير متناهية فحمدت على ذلك وأخذت في الذكر فكشف لها الحجاب من وراء أستار العزة عن معنى: {رَبّ العالمين} فشاهدت ما سوى الله سبحانه على شرف الفناء مفتقرًا إلى المبقى محتاجًا إلى التربية فترقت لطلب الخلاص من وحشة الأدبار وظلمة السكون إلى الأغيار فهبت لها من نفحات جناب القدس نسائم ألطاف الرحمن الرحيم فعرجت للمعات بوارق الجلال من وراء سجاف الجمال إلى الملك الحقيقي فنادت بلسان الاضطرار في مقام: {لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 6 1] أسلمت نفسي إليك وأقبلت بكليتي عليك وهناك خاضت لجة الوصول وانتهت إلى مقام العين فحققت نسبة العبودية فقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وهنا انتهاء مقام السالك ألا يرى إلى سيد الخلق وحبيب الحق كيف عبر عن مقامه هذا بقوله: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] فطلب التمكين بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدنا الصراط المستقيم} واستعاذ عن التلوين بقوله: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين} فصعد مستكملًا ورجع مكملًا وكأنه لهذا سميت الصلاة معراج المؤمنين.
وأيضًا فيه إشارة إلى أن من لزم جادة الأدب والانكسار ورأى نفسه بعيدًا عن ساحة القرب لكمال الاحتقار فهو حقيق أن تدركه رحمة إلهية وتلحقه عناية أزلية إلى حظائر القدس وتطلعه على سرائر الأنس فيصير واطئًا على بساط الاقتراب فائزًا بعز الحضور وسعادة الخطاب.وأيضًا إنه لما لم يكن في الحمد مزيد كلفة بخلاف العبادة فإ خطبها عظيم ومن دأب المحب تحمل المشاق العظيمة في حضور المحبوب قرن سبحانه العبادة بما يشعر بحضوره ليأتي بها العابد خالية عن الكلال عارية عن الفتور والملال مقرونة بكمال النشاط موجبة لتمام الانبساط: وأيضًا إن الحمد ليس إلا إظهار صفات الكمال على الغير فما دام للأغيار وجود في نظر السالك فهو يواجههم بإظهار مزايا المحبوب عليهم ويخاطبهم بذكر مآثره الجميلة لديهم وأما إذا آل أمره بملازمة الأذكار إلى ارتفاع الحجب والأستار واضمحلال جميع الأغيار لم يبق في نظره سوى المعبود الحق والجمال المطلق وانتهى إلى مقام الجمع وصار في مقعد: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 5 11] فبالضرورة لا يصير توجيه الخطاب إلا إليه ولا يمكن إظهار السر إلا لديه فينعطف عنان لسانه إلى جنابه ويصير كلامه منحصرًا في خطابه، وثم وراء الذوق معنى يدق عن مدارك أرباب العقول السليمة وعندي وهو من نسائم الأسحار أن الله سبحانه بعد أن ذكر يوم الدين وهو يوم القيامة التفت إلى الخطاب للإشارة إلى أنه إذا قامت القيامة على ساق وكان إلى ربك يومئذ المساق هنالك يفوز المؤمن بلذة الحضور ويتبلج جبينه بأنوار الفرح والسرور ويخلو به الديان وليس بينه وبينه ترجمان ويكشف الحجاب وتدور بين الأحباب كؤس الخطاب، فتأمل في عظيم الرحمة كيف قرن سبحانه هذا الترهيب برحمتين فصرح قبل يوم الدين بما صرح ورمز بعد ذكره بما رمز ولن يغلب عسر يسرين.
|